التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مفهوم الشعر

مفهوم الشعر

مفهوم الشعر وتعريفه

مفهوم الشعر وتعريفه

منذ قديم الأزل ، والخلاف قائم بين الأدباء والنقاد حول مفهوم الشعر وتعريفه ، وقد وضعوا له تعاريف مختلفة وسطّروا آراءاً عديدةً ، وكلٌّ يرى أنه جاء بفصل الخطاب وأنّ قوله هو عين الصواب في تعريف الشعر ، ولكنّ الحقيقة أنَّهم جميعاً قاصرون عن فهم معنى الشعر واستيعاب جزئيّاته وفروعه ، ويبدو جليّاً الآن أنّ تلك التعاريف لم تسمُ إلى قدر الشعر وفهمه الفهم الصحيح ، ومن أقدم تلك التعاريف هو ما قاله قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر ، فقد عرف الشعر بأنه : ( كلامٌ موزونٌ ومقفىً يدلُّ على معنى ) (1) ، ومن خلال المرور على هذا التعريف مرَّ الكرام ، نرى أنَّه ينطبق على قول ابن مالك في ألفيته :



كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كاستقمْ *** واسمٌ وفعلٌ ثُمَّ حرفٌ الكلِمْ (2)

ولو تمعّنـّا في البيت لرأينا أنه كلام موزون ومقفى يدلّ على معنى ، إذنْ فهو من الشعر ، ولو سألنا : هل يطرب السامع لهكذا بيت ؟ وهل يثير فيه كوامن النفوس ويهيجُ المشاعر ؟ وهل يرغب في سماعه مرّة وأخرى ؟ لاشكّ بأنّ الجواب هو : لا .
ولو سألنا أليس شأنُ الشعر أن يطربَ الأسماع ويُثيرَ كوامن النفوس ويهيّجَ المشاعر ؟ لا شكّ بأنّ الجواب : نعم .
إذن فهذا البيت ليس من الشعر ، أو أنَّ الشعر ليس هو الكلام الموزون المقفى الدالّ على المعنى ! .
وحلّاً لهذا الإشكال فقد ميّزَ الأدباء والنقاد بين الشعر والنظم ، والشعر عندهم هو ما ذكرنا شأنه ، أما النظم فهو الكلام الموزون المقفى الدالّ على معنى ، وضمّنوا النظمَ الأراجيزَ التعليمية كألفية ابن مالك وابن معطي والجزري وابن الهبارية وما شاكلها من الأراجيز العلمية والتأريخية والفقهية والعروضية و...و...وبمعنى أدقّ أنَّهم جعلوا القسمين الثاني والرابع من أقسام الشعر المزعومة وهي : ( الغنائي ، الملحمي ، المسرحي أو التمثيلي والتعليمي ) هو النظم بحدّ ذاته ، فليس هناك شعرٌ ملحميّ ولا تعليميّ وأنما هو النظم ! .
وهنا لا بدّ لنا من ملاحظتين :
الأولى : أنّ الأدباء والنقاد حين ميّزوا بين الشعر والنظم وجعلوا القسمين الملحمي والتعليمي نظماً فمعنى هذا أنهم لا يعتقدون بأهمية هذا التقسيم الرباعيّ المزعوم فليس هناك فائدة وراء هذا التقسيم وما هو إلا محاكاةٌ للشعر الغربي (الأوروبي) البعيد عن واقع شعرنا العربي ، فليس في النظم سوى الوزن والقافية والمعنى ( لأنّ الكلام هو المعنى القائم في النفس ) وإنما بعث على ذلك هو كون الشعر أسهل حفظاً وأكثر لصوقاً بالعقل والنفس ، كما فعل اليونانيون فقد ( كانت أشعارهم تقيّد العلوم والأشياء النفسية والطبيعية التي يُخشى ذهابها ) (3) .

الثانية : أنّ الشعر العربي القديم يدخل كله ضمن حيز الشعر الغنائيّ ، كما يرى الدكتور شوقي ضيف (4) ، لأنّ العرب أحبّوا الشعر وتغنّوا به وكان الشعر عندهم ما صلح للغناء -كما أسلفنا في موضوع سابق - ، قال حسّان :

تَغنَّ بالشعرِ إمـَّا كنتَ قائلـَهُ *** إنَّ الغناءَ لهذا الشعر ِ مضمارُ (5)

وهذا يؤيّد أيضاً أنْ لا حقيقةَ ولا أهميّةَ للتقسيم الرباعيّ المزعوم ، بل الشعر كله بصورة ٍ أو بأخرى غنائيّ .

وعوداً على بدءٍ ، فإنّ تعريف قدامة بن جفعر قاصرٌ عن إدراك حقيقة الشعر ، فقد نسيَ موضع الخيال والعاطفة وكان يرى أنّ الأراجيز المنظومة من الشعر .
بيدَ أنّه أحسّ بذلك فتدارك الموقف ، ففي تعليقه على كلمة (معنى) الواردة في التعريف أخرج من الشعر كلّ غثاءٍ وسخيف موزون لأنّ كلّ شخصٍ لو أراد أن ينظمَ القول الموزون المقفى لتمكن منه كما يقول قدامة نفسه : ( فإنه لو أراد مريد أنْ يعمل من ذلك شيئاً كثيراً على هذه الجهة لأمكن وما تعذر عليه) (6) .
فالعاطفة الجياشة والشعور الطافح المتدفق في أبيات القصيدة هو ما يجعلها شعراً ، فقديماً قالت العرب :

ألا يا طائـرَ الفردو *** سِ إنَّ الشعـرَ وجدانُ

فأصبح الشعور والعاطفة من الأسس الرصينة التي يرتكز عليها الشعر ويعرّف بها ،
وفي هذا المعنى يقول معروف الرصافي :

هوَ الشعـر ُ لا أعتاضُ عنهُ بغيـره ِ *** ولا عنْ قوافيـه ِ ولا عن فنونـه ِ
ولو سلبتنيهِ الحـوادث ُ في الدنـى *** لما عشتُ أو ما رمتُ عيشاً بدونه ِ
اذا كان من معنى الشعور اشتقاقـهُ *** فما بعـدهُ للمرء ِ غيـرُ جنونـه ِ

وقال أبو القاسم الشابي :

يا شعر ُ أنتَ فمُ الشعـو *** رِ وصرخة ُ الروح ِ الكئيب ْ

وقال أحمد فارس الشدياق :

سبحان من جعلَ الشعورَ شِعارَهُ *** ولكمْ ترى من شاعر ٍ لا يشعـر ُ

وقال الرصافي :

الشعـرُ فنّ ٌ لا تزالُ ضروبـُهُ *** تتلـو الشعور َ بألسُـن ِ الموسيقى

وعلى هذا يرى القيرواني ( أنما سُمّيَ الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره ) (7) .
ويرى ستدمان أنَّ ( الشعر هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبّرُ عن المعنى الجيد والذوق والفكرة والعاطفة وعن سرّ الروح البشرية ) (8) .
ولهذا السبب علّق عبد الملك بن مروان على قول الراعي النميري :

أخليفـةَ الرحمن ِ إنـَّا معشـرٌ *** حُنفـاءُ نسجدُ بكرةً وأصيـلا
عَـرَبٌ نرى للهِ فـي أموالنـا *** حـقَّ الزكاةِ مُنـزّلاً تنـزيـلا

قائلاً : ليس هذا شعراً ، هذا شرح إسلام ٍ وقراءة آية ٍ (9).
ذلك أنّ الأبيات لا تحمل سوى الوزن والقافية ، وليس ذلك شأن الشعر ، قال أيليا أبو ماضي :

لستَ منـِّي إنْ حسبتَ الـ *** ـشعرَ ألفاظاً ووزنـا
خالفـتْ دربـُكَ دربـي *** وانقضى ما كانَ منـَّا
فانطلـقْ عنـِّي لـئـلّا *** تقتنـي همـَّاً وحزنـا
واتَّخـذْ غيـري رفيقـاً *** وسوى دنيـايَ مغنـى (10)

غيرَ أنَّ الكلام إذا كان موزوناً ومقفى ويطفح بالمشاعر والعواطف والأحاسيس وذو معنىً حسن ٍ ، ولكن لفظه باردٌ فاترٌ ، كانَ مستهجناً وملفوظاً ومذموماً ومردوداً لأنّ الألفاظ من الكلام بمنزلة الثياب من الأبدان تزيدُ من حسن المليح ، وتقللُ من دمامة القبيح ، والكلام المنحطُّ اللفظ كالإنسان الذي عليه ملابسٌ رثـّةٌ ، ومثال ذلك قول ابي العتاهية في رثاء سعيد بن وهب :

ماتَ والله ِ سعيدُ بنُ وهـب ِ *** رحمَ اللهُ سعيـدَ بنَ وهـب ِ
يا أبا عثمانَ أبكيتَ عينـي *** يا أبا عثمانَ أوجعتَ قلبـي

أو كقوله في عتبة وهي جاريةٌ أحبّها :

ألا يا عُتبـةَ الساعـهْ *** أموتُ الساعـةَ الساعـهْ

مما أثارَ ثائرةَ الأدباء والنقاد عليه فطعنوا في شعره وعابوه ، وقد ذكر المرزباني أقوال الناس في شعر أبي العتاهية وعيبهم عليه (11) .
ومن أمثلة هذه التفاهات والسخافات التي لا تمت إلى الشعر بصلة قول أبي نواس :

فعصـا نـداهُ براحتـي *** أعلـو بِها الإفـلاس قرعـا
وعلـيّ سـورٌ مانـع ٌ *** منْ جودهِ إنْ خفتُ كسعـا
فلـوَ أنَّ دهـراً رابنـي *** لصفعتـهُ بالكـفّ صفعـا (12)

فهذا الشعر الغثّ مما يمله الناظر وتكرهه الآذان ويسأم منه السامع والقارئ ويضيّع وقت الكاتب فهو بيّن الإنحطاط واضحُ الركاكةَ . لذلك نبّه الأدباء والنقاد إلى أهمية الألفاظ الشعرية وأولوها عناية خاصة ، ودعوا إلى تزيينها وتحسينها وتجويدها لتكون أوقع في النفوس وأمضّ في الدلالة والقصد . وسنتحدث مفصلاً عن الألفاظ الشعرية في موضوع لاحق .
ولأجل ذلك كله عدّ الأدباء والنقاد الشعر صناعةً لإحتياجه إلى تنميق الكلام وتجويد الألفاظ وتهذيبها والوقوف عند كلّ بيتٍ يُقال وتدقيق النظر فيه واطّراح الغثّ الرديء من الكلام ، فالجاحظ يرى ( أنّما الشعر صناعة وضربٌ من النسج وجنسٌ من التصوير ) (13) ، ويرى الأصمعيّ أنّ زهير بن أبي سُلمى والحُطيئة عبيد الشعر (14) ، لأنّهما يبالغان في صناعته وغربلته . وقالوا عن شعر النابغة الذبياني : ( مطرفٌ بآلافٍ وخمارٌ بوافٍ ) (15) .
في حين عرّف شيلي الشعر على أنـّه ( خيرُ كلماتٍ صُفّت في خير نظام ٍ ) (16) ، ففي قوله خير كلماتٍ إشارةً الى إنتقاء الألفاظ وتحسينها .

بيد أنَّ الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ ، لأنّ الناس يعيبون قول أبي نواس في مدح الرشيد :

وأخفت أهل الشركِ حتّى أنـّهُ *** لتخافُكَ النطفُ التي لَمْ تُخلق ِ (17)

مع العلم أنّ العناصر التي ذكرناها (الوزن ، القافية ، المشاعر والأحاسيس ، حلاوة الألفاظ) متوفرةٌ فيه وذلك لأنّه افتقد لعنصرٍ مهمّ من عناصر التعبير الشعري ألا وهو الصدق في التعبير .
فصريع الغواني مسلم بن الوليد يرى أنّ أبا نواس في بيته هذا (يصف المخلوقين بصفة الخالق) (18) ورووا أنّ العتابي الشاعر قال لأبي نواس : أما استحييتَ من الله بقولك وأخفت ..... ألخ ، وقد عاب غيره على أبي نواس مدحته هذه (19) .
لأنّ الشعر ( ما أطرب وهزّ النفوس وحرّك المشاعر ) كما يقول القيرواني (20) ، فإنْ لم يكن صادق التعبير لم يفعلْ ذلك ، لأنّ كذبَ المقال لا يسعدُ باكياً ولا يحرك ساكناً ، وكلما كان الكلام صادق العبارة كانَ أشدّ وقعاً وأبلغُ تأثيراً في هزّ النفوس وتحريك المشاعر .
وبات التأكيد على الصدق ضرورة في تعريف الشعر ، ذلك أنّهم فاضلوا الأبيات الشعرية في مقدار صدقها ومدى صحتها ، واختاروا أصدقَ بيت قالته العرب ، قال أبو عمرو بن العلاء : لم تقلْ العرب بيتاً قطُّ أصدق من بيت الحطيئة :

مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يُعدمْ جوازِيَهُ *** لا يذهبُ العرفُ بينَ اللهِ والناس ِ (21)

وروي عن النبي (علية الصلاة والسلام) أنه قال : أصدق كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيدٍ : ألا كلّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ، وقد روي بعدة صيغ ذكرها البغدادي في خزانته .
وللبيت قصة طريفة ذكرها صاحب الأغاني في الجزء الخامس عشر : وهي أنّ عثمان بن مظعون كان جالساً في مجلسٍ من قريشٍ وفيهم لبيد ينشدهم : ألا كلّ شيءٍ ما خلا الله َ باطلُ ، فقال له عثمان : صدقتَ ، ولمّا قال لبيد : وكلّ نعيمٍ لا محالة َ زائلُ ، فقال له عثمان : كذبتَ ، نعيم الجنة لا يزول .
هذا وغيره حدا بطَرَفَةَ بن العبد أن يقول :

ولا أُغيرُ على الأشعارِ أسرقُها *** عنها غنيتُ وشرُّ الناسِ من سرقا
وإنَّ أحسَنَ بيتٍ أنتَ قائلـُهُ *** بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتـَهُ صدقـا

وفي نفس المعنى يقول حسَّان بن ثابت :

وإنـَّما الشعرُ لبُّ المرءِ يعرضهُ *** على المجالسِ إنْ كيساً وإنْ حُمُقا
وإنَّ أشعـرَ بيتٍ أنتَ قائلـُهُ *** بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتـَهُ صدقـا


وذهب الدكتور محمد النويهي بعيداً في مجال الصدق في الأدب ، فقال : ( إذا كان الفنّ هو المعبر الأكبر عن تجارب الحياة الانسانية والأداة العظمى لنقل هذه التجارب وتخليدها ، فمن الواضح أنه لن تكون له هذه القيمة إلا إذا كان تعبيره هذا تعبيراً صادقاً ) ، وقال عن نشأة الأدب وسبب وجوده : ( وجدَ لسبب واحد أصيل أن يصوّر التجارب الانسانية تصويراً صادقاً وأنْ يعبر عن العواطف البشرية تعبيراً أميناً ) (22) .
ولا بُدّ أن نشير هنا الى أنْ لا حقيقةَ لتوهم البعض من أنّ أعذب الشعر أكذبُهُ أو أحسن الشعر أكذبه ، لأنه من مستحيل المحال أن يستعذبَ الذوقُ كذب المقال ، وقصرُ الشعر على الكذب إزراءٌ بحقّه وقدره ، كما يقول حافظ إبراهيم :

يا مَنْ توهـَّمَ أنَّ الشعرَ أعذبـُهُ *** في الذوقِ أكذبُهُ أزريتَ بالأدب ِ

وإنّ السبب وراء هذه المقولة هو تحوّل الشعر في وقتٍ من الأوقات الى وسيلة للإرتزاق يستغله الشعراء كلما ألجأتهم الفاقة وسولت لهم إبتزاز أموال الغير ، فكانوا يتوسلون بشعرهم لنيل العطايا والهبات من عامة الناس وخصوصاً الحظوة عند الملوك والأمراء وبمرور الزمن نشأت طائفة من الشعراء تكيل الثناء جزافاً لمن يستحقه ومن لا يستحقه ومن نكدِ الأقدار أنّ أكثر الشعراء المدّاحين كانوا اذا لم يكافئوا على شعرهم انقلبوا الى الذمّ والهجاء ، لأنّ الشعر عندهم كذبٌ وافتراء (22) ، وأما قول زياد بن أبيه : الشعر كذبٌ وهزلٌ وأحقُّه بالتفضيل أهزلهُ ، فذلك ناظرٌ الى أنّ صدق العبارة وصراحة الرأي لا توافق هوى حضرة الوالي ، فليس له نسبٌ مشرّفٌ ولا حسبٌ يذكر به وليس له من المزايا والفضائل ما يتغنى به الشعراء ، فلا غرو أنْ ينفرَ من الشعر الصادق الذي ينعته بما لا يحبّ من الصفات ويذكّره بأنّ أمه سمية حتّى هيَ لا تعرفُ من هو أبوه ! بلْ أصبحت لديه حساسيةٌ شديدةٌ من كلّ ما اتصل بذلك من قريبٍ أو بعيدٍ ، حتى أنه أخرج حماداً الراوية من مجلسه لأنه أنشده قصيدة الأعشى ميمون :

بكَرتْ سميـَّةُ غدوةً أجمالَها *** غضبى عليكَ فما تقولُ بدا لَها (23)

لأنها تذكره بأمه سمية وتأريخها المجيد !! .
أفليس من حقّه أنْ يفضّل هزل الشعر وكذبه لبعده عن الواقع كل البعد ! .

فبعض الأدباء والنقاد يرون أنّ الكذب لا يصلح مادةً للشعر ، وبعضهم الآخر يرى أنّ المبالغة والغلوّ يُحسِّنان الشعر ، ومنهم ابن سنان الخفاجي ، فيقول : أما المبالغة والغلوّ فإنّ الناس مختلفون في حمد الغلو وذمه فمنهم من يختاره ويقول أحسن الشعر أكذبه ، ومنهم من يكره الغلو والمبالغة ويعيب قول أبي نواس وأخفت أهل الشرك ...البيت ، ثم يقول : والذي أذهب إليه المذهب الأول في حمد المبالغة والغلو (24) .
ومنهم قدامة بن جعفر إذ يقول : إنّ الغلوّ عندي أجود المذهبين (أي الغلو والإقتصار) وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديماً.
والواقع أنّ علينا أنْ نفرق بين المبالغة والغلو المقبولين عقلاً ومنطقاً واللذين يضفيان على الكلام معنى لطيفاً لكي لا يكون دون المستوى المطلوب ، وهما ما نسميه بالخيال الشعري لأنّ الخيال مطيّةُ الشعراء كما يقال وكثيراً ما يستظرف الناس بعض الأخيلة ويحبّون استماعها ويعجبون بمدلولها ، وبين الغلو والمبالغة اللذين هما كذب محض ويجعلان الكلام قبيحاً .
فمن الثاني قول أبي نواس في مدح الأمين :

ألا يا خيـرَ مَنْ رأتِ العيونُ *** نظيـرُكَ لا يُحسُّ ولا يكونُ
وفضلكَ لا يُحدُّ ولا يُجارى *** ولا تَحوي حيازتَـهُ الظنونُ
خُلقْتَ بلا مُشاكلـةٍ لشيءٍ *** فأنتَ الفوقُ والثقـلانُ دونُ (25)

فهو يغالي في الممدوح ويرفعه عن بقية البشر ولعله دون بعضهم إن لم يكن أكثرهم.
ومن الأول قوله في صفة الخمر :

كأنَّ صغرى وكبرى من فواقعها *** حصباءُ درّ ٍ على أرضٍ منَ الذهب ِ

حيث روي أنّ المأمون لما تزوج بوران بنت الحسن بن سهل بفم الصلح ، فُرشَ لها حصيرٌ من ذهب ونُثرَ عليها دُرٌّ كبار ولؤلوٌ ، فلما أخذ الدرّ يتلالئ على حصير الذهب ، قال المأمون : قاتل الله الحسن بن هانئ كأنه رأى هذا المنظر حيث يقول : كأنّ صغرى ....ألخ ( 26) .
وعليه فالكذب الصريح على كونه محرّماً فهو قبيح ، هزله وجده ، قال الشاعر :

تجنب الكذب مهما كان غايته *** فالكذب أقبح شيء في الورى صدرا

فكما يقبح الكذب في الكلام والخطاب ، يقبح في الشعر لأنه ضرب من الكلام ، قال الجرجاني : ( إنما الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح ) ثم قال : وقد روي ذلك عن النبي (ص) مرفوعاً (27) .

لنَعُدْ الآن الى قول إمرئ القيس :

كأنَّ قلوبَ الطيـرِ رطباً ويابساً *** لدى وكرها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي (28)

فقد أجاد الشاعر في توليد المعاني واختراعها ، واستظراف الألفاظ وابتداعها ، وحاكى الطبيعة وما فيها من الصِوَر ،بأصدق التعابير والفِكَر ، فهو شاعرٌ بحقّ ٍ لأنّ أرسطو يُسمّي شاعراً (من يأتي بالمحاكاة في مزيج من الأعاريض ) (29) ، ويرى ابن المعتزّ أنّ بيت إمرئ القيس هذا حوى على حسن التشبيه ولذلك فهو من محاسن الكلام والشعر (30) .
ولكن الأدباء والنقاد فضلوا عليه قول النابغة الذبياني :

ولستَ بمُستبقٍ أخاً لا تلُمـُّهُ *** على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المُهذّبُ ؟ (31)

رغم تساوي البيتين في جودة الألفاظ والسبك (32) ، لأنهم يرون أنّ الشعر يجبُ أن يحتوي على حكمةٍ أو أدبٍ يُستفاد (33) .
قال أحمد شوقي :

والشعرُ ما لَمْ يكنْ ذكرى وعاطفةً *** أو حكمةً فهْوَ تقطيعٌ وأوزانُ (34)

وجليٌّ أنّ بيت النابغة فيه من الحكمة والعظة والأدب المستفاد أكثر من بيت إمرئ القيس ، وعليه فهذا البيت وما جرى مجراه هو الشعر الحقُّ وما عدا ذلك فمتفاوتٌ في درجة الشاعرية إلى حدّ الإنعدام ، والحقُّ أنّ بعض النظم لا يستحقّ أنّ يسمى نثراً فضلاً عن أنْ يسمى شعراً
كما أنشد خلف الأحمر :

وبعضُ قريضِ القومِ أولادُ علّةٍ *** يُكدُّ لسانَ الناطـقِ المتحفِّظ ِ

أو كما أنشد أبو البيداء الرياحي :

وشعر ٍ كبعرِ الكبشِ فرّقَ بينهُ *** لسانُ دعيٍّ في القريضِ دخيل ِ

وبعض الشعراء يريدون فقط أن يقال عنهم بأنهم شعراء ، فلا يراعون الفنّ والجمال والشاعرية والأدب الرفيع ، والحقّ أنّ شاعراً كهذا :

زلّت به الى الحضيضِ قدمُهْ
يريدُ أنْ يعربـهُ فيعجمـهْ

والعجب كلّ العجب أنْ يعدّ ما يسمى بشعر التفعيلة (حركة الشعر الحر) والشعر المرسل وقصيدة النثر شعراً !! ولا ندري على أيّ مقياسٍ كان ذلك ؟!.

ومن الأبيات التي تستحقّ أن يقال لها شعراً نذكر هذه الطائفة :
- قال لبيد :
ستبدي لكَ الأيامُ ماكنت جاهلاً *** ويأتيكَ بالأخبـارِ مَن لم تُزوَّد ِ
- قال العرجي :
أضاعونـي وأيّ فتىً أضاعـوا *** ليـومِ كريهةٍ وسَـدادِ ثغـرِ
- قال الشريف الرضي :
دعِ المرءَ مطوياً على ما ذممْتـهُ *** ولا تنشرِ الداءَ العضالَ فتندما
- قال طرفة :
وظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضة ً *** على المرءِ من وقعِ الحسامِ المهنّد ِ
- قال الأحوص :
إذا أنتَ لم تعشقْ ولم تدرِ ما الهوى *** فكُنْ حَجَراً من يابسِ الصخرِ جلمدا
- قالالأخطل :
قومٌ إذا استنبحَ الأضياف كلبهمُ *** قالـوا لأمّهمِ بولـي على النار ِ
- قال ابو طالب :
حيُّهم سيّدٌ لأحيـاءِ ذا الخلْـقِ *** ومَنْ مـاتَ سيّـدُ الأموات ِ
- قال عبدة بن الطيب :
وما كانَ قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ *** ولكنّـهُ بنيـانُ قومٍ تَهدّمـا
- قال الفرزدق :
ما قالّ لا قطّ إلا في تشهّـدهِ *** لولا التشهّـدُ كانت لاؤهُ نعَـمُ
قال أبو نواس :
فجاءَ بِها زيتيّـةً عسجديـةً *** فلم نستطعْ دونَ السجودِ لها صبرا

من كلّ هذا يتبين لنا أنّ الشعر يمكن تعريفه على النحو التالي - وهو ما نعتقد أنّه أقرب التعريفات الى واقع الشعر العربي - :

( ألفاظ موزونةٌ ومقفّاةٌ ، فيها حلاوةٌ وعليها طلاوةٌ ، عَذْبةُ المنهل حلوةُ المستهلّ ، تعبّرُ عن معنىً قائمٍ في النفس ، وشعورٍ صادقِ الحسّ ، تستهوي الآذانَ وتشغفُ الوجدانَ ، وتنوّرُ السامعَ بالحكمة البالغة والأدب الرفيع ) .

ومسكُ الختام لهذا البحث التحليلي النقدي لمفهوم الشعر نذكر ما قاله الشاعر شهاب الدين سعد بن محمد الصيفي المعروف بحيص بيص في مقدمة ديوانه بحقّ الشعر والتعريف بمنزلته ، حيث يقول : ( فحسب الشعر فخراً أنّ الانسان يسمع المعنى نثراً فلا يهزّ له عطفاً ولا يهيج له طرباً ، فإذا حُوِّلَ نظماً فرّحَ الحزينَ وحرّك الرزينَ ، وكرّم البخيل ووقّر الإجفيل ، وقرّب من الأمل البعيد وسنّى الغناءَ لغير الغرّيد ، وكم أحدثَ سلوةً للمعمودِ وقد أعيت مداخله وكلّت لوّامه وعواذله ، وكم إستلّ سخيمةً من ذي غمرٍ عجزَ عن مُداراته الحجا وضَعُفت عن استرجاع ودّه الرقى فما كانَ متصرّفاً هذا التصرّف في النفوس والأخلاق فأكبرْ بشأنه وأعظمْ بمكانه ) (35) .


_____________________________________
(1) نقد الشعر / قدامة بن جعفر / ص 11 ، ص 15 .
(2) ألفية ابن مالك / ص 3 / مكتبة النهضة – بغداد .
(3) العمدة / القيرواني / 1- 13 .
(4) الفن ومذاهبه في الشعر العربي / شوقي ضيف / ص 41 .
(5) العمدة / 2- 241 ، الفن ومذاهبه / ص 44 .
(6) نقد الشعر / ص 15 .
(7) العمدة / 1- 96 .
(8) فنون الأدب لتشارلتن / تعريب زكي نجيب محمود / الفصل الثاني .
(9) الأغاني / أبو الفرج الأصفهاني / 20- 272 .
(10) الجداول / إيليا أبو ماضي / ص 9 / ط 13 / 1979 / دار العلم للملايين .
(11) الموشح / المرزباني / ص 256- 257 ، أمراء الشعر العربي في العصر العباسي / أنيس
المقدسي / ص 168- 169 / ط 16 / 1987 / بيروت .
(12) الوساطة بين المتنبي وخصومه / أبو الحسن الجرجاني / ص 61 .
(13) الحيوان / الجاحظ / 2- 130 .
(14) البيان والتبيين / الجاحظ / 2- 14 ، 42 .
(15) نفسه .
(16) فنون الأدب لتشارلتن / تعريب زكي نجيب محمود / الفصل الثاني .
(17) ديوان أبي نواس ص 285 / ط1 – 2001 / دار صادر ، نوادر أبي نواس في النثر
والشعر / حكمت شريف الطرابلسي / ص 257 / المؤسسة المتحدة للكتاب / مؤسسة
الزين للطباعة والنشر / بيروت .
(18) الموشح /ص 419 .
(19) راجع : الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني / الشعر والشعراء للدينوري / العمدة
للقيرواني / المثل السائر لابن الأثير / العقد الفريد لابن عبد ربه / الوساطة بين المتنبي
وخصومه للجرجاني / سر الفصاحة للخفاجي / عيار الشعر للعلوي / نقد الشعر
لقدامة بن جعفر ومعاهد التنصيص للعباسي وفيه ذكر قول العتابي .
(20) العمدة / 1- 107 .
(21) الأغاني / 2- 173 .
(22) وظيفة الأدب بين الإلتزام الفني والإنفصام الجمالي / ص 40- 43 / القاهرة 1963.

راجع : أبو الطيب المتنبي حياته وشعره / ص 79 / ط2 / 1988 / مكتبة النهضة
بغداد / موضوع بعنوان : أبو الطيب المتنبي تاجر من تجار الأدب / لسليم عبد الأحد .
(23) القصة ذكرها أبو الفرج في الجزء السادس من الأغاني ، وكذلك ابن حمدون في
التذكرة الحمدونية والمظفر العلوي في نضرة الإغريض .
(24) سر الفصاحة / ابن سنان الخفاجي / ص 319 .
(25) ديوان أبي نواس / ص 411 وفيه تنسب في طبقات ابن المعتز لابراهيم بن سيار ،
نوادر أبي نواس / ص 310 .
(26) القصة مذكورة في : الديارات للشابشتي / الروض المعطار للحميري / الكشكول
للبهائي / مرآة الزمان لليافعي / الوافي بالوفيات للصفدي / وفيات الأعيان لابن
خلكان / ثمار القلوب للثعالبي / قطب السرور للرقيق القيرواني .
(27) دلائل الإعجاز في علم المعاني / عبد القاهر الجرجاني / ص 20 .
(28) ديوان أمرئ القيس / شرح عبد الرحمن المصطاوي / ص 139 / ط1 – 1425هـ/
مطبعة ثامن الحجج .
(29) في الشعر / أرسطو / ص 30- 31 .
(30) البديع / ابن المعتز / ص 69 .
(31) ديوان النابغة الذبياني / تحقيق وشرح كرم البستاني / ص 18 / ط3 - 2003 / دار
صادر .
(32) الإستدراك في الأخذ على المآخذ / ابن الأثير / ص 59- 60 .
(33) طبقات فحول الشعراء / ابن سلام / ص 4 ، الإستدراك / ص 59- 60 .
(34) شوقي / عبد اللطيف شرارة / ص 143 .
(35) ديوان حيص بيص / ص 65 ، وخريدة القصر وجريدة العصر / العماد الأصفهاني / 1- 202

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلحات تاريخية

صلاة الاستخارة

صور حصان